تحقيقات قضائية تكشف عن : سرقات كبرى وفساد مالي رهيب في بعض البنوك التونسية وأطراف نافذة تتدخل لحماية المورطين

في حلقة نقاشية صاخبة، فُتح ملف شائك يكشف عن ممارسات وُصفت بـ”الافتراسية” لبعض البنوك ومؤسسات الإيجار المالي في تونس، والتي تحوّل أحلام المستثمرين الصغار إلى كوابيس، في ظل غياب شبه تام للرقابة وآليات المحاسبة الفعالة. القضية التي فجرها الإعلامي محمد البوزيدي في برنامجه، استعرضت شهادة حية لسيدة أعمال تونسية وجدت نفسها غارقة في ديون تفوق أضعاف ما اقترضته، لتصبح مدرستها التي بنتها بحلم كبير معروضة للبيع في أي لحظة.
شهادة صارخة: “أقرضوني مليارًا و700 مليون وأطالب الآن بـ4.5 مليار”
بدأ الإعلامي محمد البوزيدي الحلقة بلهجة حادة، قائلاً: “سنتحدث عن بنوك، للأسف، تتجاوز القانون وترتع في البلاد كما تريد. تتسلف 100 مليون لتردها 400، وتتسلف مليارًا لترجعه أربعة. هناك تجاوزات خطيرة، وكأننا نعيش في غابة”.
ثم قدّم ضيفته، السيدة فاطمة الطرابلسي، صاحبة مدرسة تربوية، التي روت مأساتها قائلة: “أسست مدرستي عام 2012، وبحلول 2017، كان لدي 700 تلميذ. قررت التوسع وشراء أرض وبناء مقر خاص. قمت بدراسة جدوى كأي مستثمر، وتقدمت بطلب قرض وافق عليه أحد البنوك”.
الفيديو :
وأضافت السيدة فاطمة تفاصيل القرض الذي دمر مشروعها: “في البداية، حصلت على قرض بقيمة 1.2 مليار دينار، ثم أضفت 500 مليون أخرى، ليصبح الإجمالي 1.7 مليار دينار. لكن مع أزمة كورونا، توقفت عن السداد من أبريل إلى ديسمبر 2020. وعندما طلبت إعادة جدولة، فوجئت بالبنك يطالبني بسداد 250 مليون دينار فورًا، وهو مبلغ لا أملكه”.
الكارثة لم تتوقف هنا، فالبنك، بحسب قولها، لم يلتزم بمنشور البنك المركزي الخاص بتسهيلات الدفع خلال الجائحة، بل قام ببيع دينها إلى شركة إيجار مالي تابعة له. تقول السيدة فاطمة: “باعوني لشركة الليزينغ التابعة لهم، فوجدت نفسي مطالبة بسداد 4 مليارات و480 مليون دينار، أي ما يقارب 4.5 مليار. والآن، أنا أدفع إيجارًا شهريًا لمدرستي بقيمة 41 مليون دينار لمدة 10 سنوات”.
وأكدت أنها حاولت الاستفادة من قانون الصلح الجزائي (الفصل 412)، لكن طلبها قوبل بالتجاهل، ليصبح مشروعها مهددًا بالبيع في المزاد العلني في أي لحظة.
منظومة متكاملة من الفساد: “وضعت رأسك في فم الأسد”
النقاش كشف أن قضية السيدة فاطمة ليست حالة فردية، بل هي نتاج منظومة متكاملة وصفها المحلل بدر الدين بلعيد بـ “المترابطة”. وأوضح أن “البنوك وشركات التأمين وشركات الإيجار المالي ومكاتب دراسة المشاريع غالبًا ما تكون جزءًا من شبكة واحدة. المستثمر الذي ينافسك في السوق قد يكون شريكًا في البنك الذي تقترضه منه، فتجد نفسك قد وضعت رأسك في فم الأسد”.
وأضاف أن هذه الشبكات تعمل كـ “منظومة مغلقة” أو “مافيا” لا ترحم، حيث تمنح وعودًا بالتمويل ثم تتراجع بعد أن يكون المستثمر قد استثمر أمواله الخاصة، ليجد نفسه محاصرًا. وضرب مثالًا بـ “صيادي الفرص” (Chasseurs d’opportunités) الذين يتربصون بالمتعثرين لشراء ممتلكاتهم بأبخس الأثمان في مزادات صورية.
غياب الرقابة وتواطؤ الإدارة: “الوزير يسبح في واد الفساد”
أثيرت تساؤلات حادة حول دور الجهات الرقابية، وعلى رأسها البنك المركزي، الذي يبدو عاجزًا عن فرض سلطته على البنوك. وتساءل الناشط السياسي معز : “من يردع هذه البنوك؟ ومن يراقب تطبيقها للقانون؟”.
وأشار إلى ظاهرة خطيرة تتمثل في “ترويض” الوزراء الجدد من قبل “الإدارة العميقة” و “الحزب الإداري” المتغلغل في الوزارات. وأوضح: “الوزير الجديد، مهما كانت نواياه حسنة، يتم استدراجه وإغراقه في البهرجة والبروتوكولات، ثم يتم عزله عن الواقع من قبل بطانة فاسدة من المديرين العامين الذين توارثوا المناصب. هؤلاء يمنعون أي إصلاح، ويقدمون للوزير صورة مزيفة عن الوضع”.
وأضاف البوزيدي: “أغلب الوزراء لم يتمكنوا من إجراء إصلاحات حقيقية لأن المحيطين بهم هم بطانة سوء ومافيات وإدارة عميقة. إنهم يختارون وزراء لا يتبنون الأفكار الوطنية التي يدعو إليها رئيس الجمهورية”. وذكر أن الخلاف بين الرئيس الأسبق منصف المرزوقي وحركة النهضة كان بسبب تعيين أشخاص “بلا خبرة ولا اختصاص ولا كفاءة” على رأس الإدارات، فقط على أساس الولاءات وتقاسم الغنائم.
شارع محبط وهيئة معطلة
على وقع هذا النقاش، عبر مواطنون في الشارع عن إحباطهم. أحدهم قال إن حل هيئة مكافحة الفساد كان خطأ، مقترحًا إعادة هيكلتها بأعضاء ينتخبهم الشعب مباشرة لضمان استقلاليتها. وأضاف آخر: “بلغت عن الفساد منذ 2012 وحتى 2020، وقدمت وثائق لرئاسة الجمهورية ومكافحة الفساد، فلم أتلق أي جواب، بل وجدت نفسي ملاحقًا قضائيًا. كيف تريدونني أن أبلغ عن الفساد وأنا لست محميًا؟”.
في الختام، وجه محمد البوزيدي نداءً صارخًا بأن البلاد إما أن تتجه نحو إصلاح حقيقي وجذري للإدارة ومحاسبة الفاسدين، أو أن “المرنقة (الجراد) ستلتهم كل شيء”، مؤكدًا امتلاكه لملفات ووثائق لو نُشرت “لما خرج كبار المسؤولين من منازلهم”. ليبقى السؤال معلقًا: هل ستظل هذه التصريحات مجرد صرخات في وادٍ، أم أنها ستكون شرارة لثورة حقيقية على منظومة الفساد المتجذرة؟