وثائق استخباراتية مسرّبة واعترافات مدوية.. قضية “التآمر على أمن الدولة” تكشف أسرار “العشرية السوداء” في تونس

من اغتيال بلعيد والبراهمي إلى شبكات التجسس.. تفاصيل مثيرة من جلسة محاكمة قيادات سياسية وأمنية بارزة هزت الرأي العام.
تونس – لم تعد قضية “التآمر على أمن الدولة 2” مجرد محاكمة سياسية تجمع أضداد الأمس في قفص اتهام واحد، بل تحولت إلى ما يشبه “صندوق باندورا” الذي بدأت أسراره الصادمة تتكشف، مهددةً بفتح ملفات العشرية الماضية الأكثر قتامة، وعلى رأسها الاغتيالات السياسية وأسرار الدولة العميقة.
في حلقة جديدة من برنامجه “شوف واسمع”، سلّط الإعلامي محمد البوزيدي الضوء على ما يدور خلف الأبواب المغلقة لقاعة المحكمة، حيث كشفت استنطاقات المتهمين عن حقائق تتجاوز في خطورتها الأحكام القضائية المنتظرة، وتطرح أسئلة جوهرية حول من كان يحكم تونس فعلاً من وراء الستار.
“سأفضحهم”… إطار أمني سابق يهدد بكشف حقيقة الاغتيالات
كانت اللحظة الأكثر دراماتيكية في جلسة المحاكمة هي استنطاق عبد الكريم العبيدي، الإطار الأمني السامي الذي كان مسؤولاً عن أمن الطائرات بمطار تونس قرطاج. فبعد أن واجهه رئيس الدائرة الجنائية المختصة بقضايا الإرهاب بمعطيات دقيقة، انفجر العبيدي معترفاً بامتلاكه معلومات حاسمة حول اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وصرخ قائلاً: “الشهيدان ينتظران مني أن أقول الحقيقة… والله لما أفضحهم!”.
هذا الاعتراف المزلزل أثار تساؤلات كبرى: من هم الذين يقصدهم العبيدي؟ وما هي الأسرار التي يملكها؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كشفت المواجهة القضائية عن شبكة علاقاته المشبوهة. فبعد نفيه معرفته بمعاذ الغنوشي (نجل راشد الغنوشي)، باغته القاضي بسجل يوثق 411 مكالمة هاتفية بينهما، مما أربك العبيدي الذي حاول تبريرها بقصة متهافتة حول سيارة حجزتها شرطة المطار.
كما أظهرت التحقيقات تواجد العبيدي المريب في كل الأحداث الكبرى التي هزت البلاد، بعيداً عن مهامه الوظيفية في المطار:
-
جامع الفتح: كان حاضراً يوم تهريب القيادي السلفي المصنف إرهابياً “أبو عياض”.
-
جنازة شكري بلعيد: شوهد في موكب الدفن.
-
منزل رواد: تواجد بالقرب من المنزل الذي تحصن فيه الإرهابي كمال القضقاضي.
-
استقبال القرضاوي: دخل قاعة التشريفات الرئاسية، التي لا يخولها له منصبه، لاستقبال يوسف القرضاوي رفقة قيادات من حركة النهضة.
الفيديو:
تفكيك الصندوق الأسود لأقـ ـذر وأخطـ ر العمليات الارهاابية وأحكام قاسية تنتظر للغنوشي وإطارات أمنية؟
وثيقة “الـ CIA” المخبأة والتجسس من داخل قصر قرطاج
لم تكن اعترافات العبيدي الصدمة الوحيدة. فقد كشفت المحاكمة عن وثيقتين استخباراتيتين في غاية الخطورة، بطل إحداهما هو محرز الزواري، المدير العام السابق للمصالح المختصة بوزارة الداخلية.
الوثيقة الأولى (60/64): هي وثيقة استخباراتية وردت من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) بتاريخ 10 يوليو 2013، أي قبل 15 يوماً من اغتيال الشهيد محمد البراهمي. حذرت الوثيقة بشكل صريح من وجود تهديدات جدية لتصفيته، وطالبت بتوفير الحماية له. لكن هذه الوثيقة اختفت ولم يتم اتخاذ أي إجراء، ليقع الاغتيال كما ورد في التحذير. وعندما وُجه الاتهام للزواري بإخفاء الوثيقة، حاول التنصل من المسؤولية قائلاً إن مهمته تقتصر على جمع المعلومات وليس الحماية.
الوثيقة الثانية (الأخطر): وثيقة سرية للغاية، وجدت مسجلة على هاتف محرز الزواري عبر تطبيق “واتساب”. هذه الوثيقة، التي وصفت بأنها تحمل طابع “سري مطلق”، أرسلتها نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي السابقة، من داخل قصر قرطاج إلى جهاز مخابرات دولة عربية أجنبية. وتتضمن الوثيقة تفاصيل دقيقة حول الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021.
هنا، يطرح السؤال الصادم: هل كان في قمة هرم الدولة التونسية مسؤولون كبار أم جواسيس من العيار الثقيل يعملون لصالح أجندات خارجية؟
من الغنوشي إلى الشاهد وعكاشة: أضداد الأمس في قفص اتهام واحد
تجمع القضية قائمة طويلة من المتهمين البارزين، بينهم من هو في السجن على ذمة قضايا أخرى، ومن هو في حالة فرار خارج البلاد، أبرزهم:
-
راشد الغنوشي (زعيم حركة النهضة)
-
يوسف الشاهد (رئيس الحكومة الأسبق)
-
نادية عكاشة (مديرة الديوان الرئاسي السابقة)
-
معاذ الغنوشي و رفيق عبد السلام (قياديان بالنهضة)
-
عبد الكريم العبيدي و محرز الزواري (إطارات أمنية عليا)
-
شخصيات عسكرية متقاعدة مثل كمال البدوي و سمير الحناشي(من مجموعة “براكة الساحل”).
هذا الخليط غير المتجانس من الخصوم السياسيين السابقين يثير تساؤلات حول طبيعة المؤامرة التي جمعتهم، والتي يبدو أنها تتجاوز مجرد محاولة قلب نظام الحكم الحالي، لتمتد جذورها إلى مخططات أعمق بدأت منذ سنوات.
جهاز سري أم ولاءات مشبوهة؟ المحاكمة تضع الدولة العميقة تحت المجهر
تؤكد هذه الاعترافات والمواجهات القضائية الفرضيات التي طالما تحدث عنها كثيرون حول وجود “جهاز سري” لحركة النهضة، لم يكن كياناً منفصلاً، بل جزءاً لا يتجزأ من مؤسسات الدولة، خاصة وزارة الداخلية. فالعلاقات الوثيقة والمكالمات الهاتفية المكثفة بين قيادات النهضة وإطارات أمنية وعسكرية عليا، تشير إلى وجود هيكل موازٍ كانت رواتبه تُدفع من خزينة الدولة التونسية، لكن ولاءه وخدماته كانت موجهة لقيادة الحزب في “مونبليزير”.
لقد فتحت قضية “التآمر 2” الأبواب على مصراعيها ليس فقط لمحاكمة المتهمين، بل لمحاكمة حقبة كاملة شابها الفساد والتآمر والاختراق الأمني. وبينما ينتظر الرأي العام الأحكام القضائية، تبقى الحقيقة الكاملة حول الاغتيالات السياسية وشبكات التجسس هي المطلب الأسمى، لعل العدالة تجد طريقها أخيراً في تونس، وتجيب على السؤال الحارق: يا قاتل الروح وين تروح؟