مدير عام سلسلة فنادق عالمية وتونسية يكشف عن عمليات تحيل و سرقات بالمليارات و تهريب الأموال للخارج تسببت في كاارثة كبرى للسياحة التونسية

مقال تحليلي يكشف فيه رجل الأعمال والخبير السياحي عبد الكريم الفرشي عن الأسباب العميقة التي حوّلت فنادق تونس من وجهة لأثرياء العالم إلى أطلال تُباع بالقطعة، واضعاً يده على جرح الفساد وغياب الكفاءة الذي ينخر القطاع.
لم تكن تونس مجرد وجهة سياحية، بل كانت حلماً يراود أثرياء ومشاهير العالم. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت شواطئ جربة والحمامات وسوسة تستقبل شخصيات بحجم صوفيا لورين وجوني هوليداي. يتذكر السيد عبد الكريم الفرشي، رجل الأعمال الذي قضى حياته في إدارة سلاسل فنادق عالمية منذ عام 1968، تلك الأيام بأسف قائلاً: “كنا من رواد السياحة، وكان بإمكاننا أن نصبح شيئاً عظيماً. كان السائح يترك بسخاء هدايا ومبالغ طائلة خلفه، تقديراً لجودة الخدمة وجمال البلاد وشعبها المنظم والمضياف”.
لكن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً. فما الذي حدث؟ وكيف تحولت منارات السياحة الفاخرة إلى هياكل خربة مثقلة بالديون؟
بذور الخراب: “تصنيع” السياحة وفساد بالمليارات
يكشف الفرشي أن نقطة التحول الكارثية كانت مع تبني سياسة “تصنيع السياحة”، وهي سياسة حوّلت القطاع من تجربة راقية إلى صناعة جماهيرية تفتقر للجودة. لكن الأخطر من ذلك هو الفساد المالي الذي استشرى تحت غطاء تطوير القطاع.
يشرح الفرشي الآلية بوضوح صادم: “يأتي رجل أعمال، ويضع خطة عمل (Business Plan) لبناء فندق بقيمة 100 مليار دينار، بينما تكلفته الحقيقية لا تتجاوز 40 ملياراً. وبفضل علاقاته، يحصل على موافقة السلطات وقرض بنكي بقيمة 60 ملياراً. بهذه الطريقة، يبني الفندق بـ 40 ملياراً من أموال البنك، ويضع 20 ملياراً في جيبه الخاص، ليصبح مالكاً لفندق لم يدفع فيه مليماً واحداً من ماله!”.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن التشريعات كانت تسهل تهريب الأموال للخارج، حيث كان بإمكان المستثمر إخراج 2% من العائدات سنوياً تحت مسمى “le contre-facture”، مما زاد من استنزاف ثروات البلاد.
الفيديو :
المتصرف القضائي: مُنقذ أم حفار قبور؟
عندما تبدأ هذه الفنادق بالغرق في ديونها، يظهر “المنقذ” المزعوم: المتصرف القضائي. لكن الفرشي يصف دوره بـ”المصيبة”، مؤكداً أن تعيين شخص غير مختص في قطاع معقد مثل السياحة هو بمثابة حكم إعدام على المؤسسة.
“كيف يمكن لمحامٍ أو خبير حسابات أن يدير فندقاً؟” يتساءل الفرشي. “المتصرف القضائي، الذي يُعيّن لتصفية النزاعات بين الورثة أو لإدارة الديون، لا يمتلك أي خبرة فندقية. وبدلاً من إيجاد حلول لإعادة تشغيل الفندق، يصبح همه الأول هو تصفية الأصول لسداد الديون الفورية”.
وهنا تبدأ المأساة الحقيقية. يروي الفرشي بحرقة ما حدث لفنادق شهيرة في نابل مثل “الكيوبس” و”البيراميد”: “ديونها قفزت من 5 مليارات إلى 24 ملياراً، وتحولت إلى أطلال. لقد باعوا كل شيء: مطابخ الفندق لتسديد أجور العمال، أسلاك النحاس في المكيفات، الأبواب، النوافذ، وحتى أجهزة التلفاز. لم يتركوا شيئاً. هذا خراب ممنهج لتراث تونس أمام أعين الدولة”.
سباق نحو القاع: بيع تونس بأبخس الأثمان
تفاقمت الأزمة بسبب المنافسة غير المدروسة بين أصحاب الفنادق. ففي غياب التنسيق، دخلوا في سباق محموم لتخفيض الأسعار لجذب السياح الأجانب. يوضح الفرشي: “هل يُعقل أن يأتي سائح من أوروبا ويدفع 280 يورو فقط مقابل إقامة لمدة أسبوع كامل، شاملة تذكرة الطائرة، الأكل، الشرب، والنقل؟ هذا السعر لا يغطي تكلفة وجباته اليومية!”.
هذا السعر الزهيد، الذي يفرضه أصحاب الفنادق على أنفسهم لجلب العملة الصعبة، يقابله سعر باهظ يُفرض على المواطن التونسي، الذي قد يدفع في الليلة الواحدة ما يدفعه الأجنبي في أسبوع كامل. والنتيجة هي فنادق تعمل بخسارة، وتتراكم ديونها لدى البنوك التي تزيد من أعبائها بفوائد خيالية.
خارطة طريق للإنقاذ: هل من أمل؟
رغم الصورة القاتمة، يرى السيد الفرشي أن الحلول ما زالت ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية. ويقترح خارطة طريق واضحة:
-
تدخل البنوك: يجب على البنوك التونسية تجميد الفوائد المتراكمة على ديون الفنادق وإعادة جدولتها بناءً على رأس المال الأصلي فقط، لمنحها فرصة للتنفس.
-
جلب الخبرات العالمية: بدلاً من ترك الفنادق للخراب، يجب البحث عن شركات إدارة عالمية متخصصة أو مستثمرين أجانب محترفين لتولي إدارتها وتشغيلها مقابل نسبة من الأرباح. هؤلاء سيجلبون معهم الحرفاء والخبرة اللازمة للنهوض بالقطاع.
-
إصلاح التشريعات: يجب مراجعة القوانين التي سمحت بالفساد وبتعيين متصرفين قضائيين غير مؤهلين، ووضع إطار قانوني صارم يحمي القطاع ويشجع على الاستثمار الحقيقي لا على النهب.
في النهاية، يقف قطاع السياحة في تونس على مفترق طرق حاسم. فإما أن تستمر دوامة الخراب الممنهج حتى تتحول أجمل فنادق البلاد إلى مشاريع عقارية بعد بيعها كأراضٍ خربة، أو أن يتم اتخاذ قرارات جريئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة تونس إلى مكانتها التي تستحقها على خريطة السياحة العالمية. فالقضية لم تعد مجرد أزمة فنادق، بل هي قضية تراث وطني واقتصاد بلد بأسره.